المقالات

فطرة التعلم

في يوم عادي يشبه الكثير من الأيام، شاشة تتوسط صالة المنزل يسكنها رسوم كرتونية، وفي احدى أطراف الصالة يجلس طفل يسكن القلب من أول نظرة. كان حينها متعباً، كان حينها مجهداً، كان حينها يغازل النوم بوجدانه.. بأطرافه.. بإحساسه.. وبمشاعره الصادقة جداً. في ذلك الوقت إن قلت له سأعطيك كنزاً من الشوكلاته، لن يبديك أي اهتمام أو تجاوب لأنه يبحث عن كنز آخر، كنز يأخذك إلى عالم الأحلام، كنز حنون جداً يتمثل بسرير ووسادة. لن تجذبه لعبة، ولن تجذبه طُرفه، ولن توقظه صرخة.. ليس من وحي الخيال أدعي هذا.. بل لأني حاولت وتعبت المحاولة مني ومنه.
وقتها كنت أرغب بالذهاب لأداء فريضة صلاة المغرب، لذلك همست في أذنه وقلت له سوف أذهب لأصلي هل تريد أن تصلي معي؟ ولم أُكَلِّف نفسي بالإلحاح بالمحاولة لأنه طفل لم يكمل الرابعة من عمره، ولا أنتظر منه صلاة واجبة، فما بالكم وهو في هذه الحالة.
قررت التحرك من موقعي.. وتفاجأت بأن ذلك المستيقظ النائم، تحرك والتفت وقرر النهوض. معبراً عن رغبته بمشاركتي الصلاة.. فرحت وحملته للغرفة حتى نصلي معاً. عبر لي عن حبه لي قبل الصلاة.. ووقف متجهاً للقبله.. “الله أكبر” بدأت الصلاة وبصوت جهوري اخترت أن اقرأ من بين تلك السور الأربعة التي يحفظها، سمعت صوته الرقيق معي يردد، وعلى جمال فطرته يؤكد.
“الله أكبر” سجدت فسبقني للسجود، “الله أكبر” رفعت من السجود فتابعني بالرفع، مسكت أنفي لثانيه فمسك أنفه لثانية تشبه ثانيتي تماماً، شعرت به وهو يراقب يدي، يراقبها لأنه يريد أن يتقن ما يفعله، أن يؤدي صلاته بالشكل الصحيح، حركت اصبع السبابة للتحيات فحرك تلك السبابة الصغيرة. سلمت يميناً فسلم شمالاً لأنه مهتم في متابعتي، سلمت شمالاً فسلم يميناً. هو يحاول أن يقلد حركاتي بما يستطيع أن يفهمه ويستوعبه، بما يليق بفطرته. الموقف هذا يؤصل لدي معنى الفطرة، والفطرة تتأصل بهذا الموقف، نعم.. حبه للصلاة فطرة.. استمتاعه في صلاته فطرة وأن يفضلها على تلك “الكراتين” فطرة.. ولكن تعلقه بها ومواظبته عليها في المستقبل ليست محل صدفة، بل محل عمل ومسؤولية.
من هنا تذكرت موقفاً آخر لاحظته قبل فترة ليست بالطويلة.. كنت أقوم بحركة “يوقا” نوعاً ما صعبة يطلق عليها “الهيد ستاند” لتحريك الدورة الدموية، بها أقف على رأسي دون الاعتماد على جدار المنزل، أعتمد فقط على جدار بطني ذو الست غرف (المخفية). هذه الحركة استغرقت مني أياماً عديدة حتى أجيدها وأتقنها.. كنت أقوم بهذه الحركة أمام ابن أختي ذو الأربعة أعوام، ولكنه لم يكتفي أبداً بالمشاهدة وحسب.. وبالتأكيد لن يكتفي.. هو في تلك المرحلة التي فقدها الكثير.. مرحلة التعلم والإصرار.. مرحلة اللاحدود فكرية للإمكانيات.. لاحقاً نصنع تلك الحدود أو تصنعنا الحدود. متعجباً رأيته يحاول حتى أعتذرت منه المحاولة.. رأيته يجاهد نفسه على فعلها حتى وصل لمرحلة من “الغبنة”، لدرجة أنه كاد يغرق في دموعه. أوضَّحت له بأن الحركة صعبة بالنسبة له، وأنه لابد أن يكون في عمر أكبر حتى يتقنها، ولكنه أوضح لي بأن كلامي لا يهمه مطلقاً، هو سيفعلها شئت أم ابيت، بمساعدتي أو بدونها، لذلك لم يكن بوسعي إلا ارشاده ومعاونته، حتى وصلت لمرحلة شعرت من خلالها أن لابد من التوقف، فمن الخطأ المبالغة في المحاولة والصراع على تطبيق وتعلم الحركة.. ليته يوزع رغبته تلك علينا.. ليت أطفالنا يوزعون رغبتهم بالتعلم علينا جميعاً.
ندرك بأن مرحلة رغبة التعلم لدى الأطفال هي مرحلة حرجة ويجب الاهتمام بها بشكل خاص. فمن خلال هذه المرحلة يرغب الطفل باكتشاف وتعلم كل ما يراه أمامه لدرجة يريد معها أن يستنسخ شخصية من يكبره سناً لذلك نحن مسؤولون للاهتمام بهذه المرحلة فهي مرحلة اللاحدود واللامستحيل.. مرحلة القدرة على الطيران.. مرحلة القدرة على كسب لغة اغريقية.. مرحلة القدرة على كسب عادة نموذجية.. مرحلة رغبة معرفة ما وراء البحار.. مرحلة اللاكراهية.. مرحلة مركبة حب تستوعب الجميع.. مرحلة الحس المرهف.. دعونا لا ننزع منهم كل ذلك ونعيد بعضاً منه فينا، فنحن قد فقدنا فطرة التعلم.

 

………………………………………

عبدالمحسن اللافي

Snapchat: A_Lafi
Instagram: A.Lafi

اظهر المزيد

‫3 تعليقات

  1. اكثر ما يعجبني في كتاباتك هو وصفك الدقيق لتأملاتك
    لماذا لا تفكر في مشروع روايه !
    دمت بخير 💜

  2. طريقة عرض المقال رائعه رائعه تشد القارىء لآخر نقطه ونعم الاخلاق والتربيه لستمر ولا تتوقف عبدالمحسن الدنيا قدامك واجهها وحقق مايدور في بالك

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى