المقالات

السّخريّة الوجه الآخر لتعرية الحياة

يظل الأدب السّاخر بصفة عامَّة تراثًا بشريًّا مؤثِّرًا في حياة الشّعوب، فهي تتناقله جيلاً بعد جيل، وتتوارثُه أمَّة بعد أمّة، إلى حيث الأنسِ بِه ومن خلاله؛ كوسيلة من وسائل التّنفيسِ الرّوحيّ، فليست السّخرية، أو الأدب السّاخر مجرّد ضحكة تسمع قهقهتَها على حين غرّة، وليس الأدب السّاخر بهرجًا أدبيًّا، وترفًا ثقافيًّا نستصحبه حين تضيق بنا مكامن التّنفيس عن الرّوح حين يتبعها الجسد في انتفاضةٍ تهتزّ لها الأكتاف، وتنتفض لها البطون، كلا إنّه رداءٌ يتدثّره المسكون بالهمِّ، ويلتحف به المكسور بالألمِ. 
إنَّه باب من أبواب التقاط المشاعر إلى حيث مفارقات الحياة، ومتاعب الحياة، وسخط الحياة، وهمِّ الحياة، وألم الحياة؛ سعيًا لتعرية الحياة بناسها، وقضّها وقضيضها، إلى حيث البهجة والسّعادة والتّرويح، ولكن بصورة معكوسة تتبدّى من خلالها اللّغة الصّادقة للحياة وساكنيها. 
فلا ترف أدبيّ في أدب السّخرية، ولا ملهاةَ في ذيل هذا الأدب، فكلّ عظيمٍ في فنونِ الأدب بسط القول في هذا الفنّ، واستحلى ملهاته، وأبان من خلاله جسور السّخرية بالكلمة المنثورة والمنظومة.
وعطفًا على ذلك؛ فأشكال هذا الأدب السّاخر تتنوّع وتتمدّد إلى حيث امتداد هذا الأدب وتعدّد مساربِه؛ تارةً عبْر المقالة الصّغيرة، وتارةً عبر بوابة الشعر وفحوله، وتارةً عبر نوافذ الرواية، أو القصة، أو المقامة، أو الأرجوزة؛ فضلاً عن فنون الرّسم، وتعدّد مدارسه وكذا في كافّة الأعمال الدراميّة المختلفة من مسرحيات ومسلسلات وأفلام … وإلى آخر هذه الأجناس ذات الصبغة الفنيّة.
ومكمنُ أهميّة الّلفتة السّاخرة في أيّ فنٍّ من تلك الأجناس إلى كونه يحمل من الخصائص ما يجعله الرسالة الأقوى ضمن أساليب التعبير المختلفة، بحيث يصل إلى المتلقّي بطريقة أكثر سهولة، وأكثر عمقًا وأثرًا، فهو -أيّ الأدب السّاخر- وسيلة من الوسائلِ التي تظهر الأشياء بطريقة مغايرة، أو معكوسةٍ، تبعث على إعمال الفكر، وكلّما زادتْ بواعث التّفكير، زاد الأثر ما يبعث على الدّهشة والانبهار، لا الضّحك كما يتوقع البعض. 
إنّه تمرّدٌ مقصودٌ يأخذ أشكال الثّورة الفكريّة ضدّ ما هو عاديّ وطبيعيّ وتقليديّ، فلا يمتطي صهوته إلاّ موهوبٌ يملك حاسّة قوية تمتاز بالحيويّة، والاتّقاد الذّهنيّ إلى حيث يلتقط ما لا يلتقطه الآخرون، تدعمه ابتداءً موهبته، وثقافة ذاتية، وكمّ من التّراكمات الهائلة، والخبرات الشعورية الصّادقة.
إنّ المتتبع لمسيرة أدبنا العربيّ قديمًا وحديثًا يتبدى له ذلك الكمّ الهائل من أدب السّخرية فرضته الظّروف، وأنتجته بيئاته السياسية والاجتماعية والاقتصادية. 
فعلى سبيل المثال لا الحصر، هناك الأعمش، وشعبة بن الحجاج، وابن الجوزي، والجاحظ، وياقوت الحموي، وأبو نواس، وابن الروميّ، وأبوالعلاء المعرّي، ونقائض جرير وصاحبيه الفرزدق والأخطل، ومع ذلك يكفيك فحسب إدارة دفّة أضابير هؤلاء، فهي مجموعة من اللّفتات الأدبيّة السّاخرة، تظهر حينًا بلغةٍ تكشف عن مدى تغلغل هذا الفنّ في تراثنا الأدبيّ القديم، ومن يصافحْ كتاب (الأغاني) يجدْ مئات الأمثلة تستعصي عن السّرد أو النقل، فهي قمينة بكشف ذلك الأثر، ومدى تلهف الخلق لتناقله ناهيك عن تدوينه، وسبر أغواره.
اظهر المزيد

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى