المقالات

مذكرات متحدث رسمي !

قال لي معلم الانجليزي في مدرستي القروية قبل أربعين عاما : سنضعك رئيس تحرير المجلة التي نحررها على كرتون أبيض ونعلقها في الفصل, و لم أفهم طبيعة المنصب لكني شعرت أنه شيء يشابه منصب شيخ القبيلة ففرحت !

ثم توليت في المدارس عدة مناصب رئاسية أخرى في السنوات اللاحقة فيها بريق مشيخة القبيلة تقديما للحفلات ومسرحا وكشافة وجماعات نشاط فتغلغل حب الإعلام في قلبي وشعرت بارتباطه بالسلطة والقوة!

وعندما بدأت أولى سنوات دراستي الجامعية في الطب شغلني الحب و الشعر وشياطينه عن مشيخة قبيلة الإعلام فتحولت لدراسة التربية وتفرغت لكتابة قصائد وقصص قصيرة كنت أرسلها لتنشر في بعض الصحف و بدأ ظهور اسمي في الصحيفة أكثر بريقا أول مرة من مشيخة مجلة جماعة اللغة الانجليزية !

بل إن ظهور اسمي المستعار في أحدى الردود من محرر الصفحة الشعبية عام 1409 كانت أجمل لحظة في حياتي رغم محطات التفوق الدراسي التي مررت بها, و أحسست حينها أني أكاد اطير من الفرح !

ثم بدأت أكتب مقالات و قصص قصيرة تفوز أحيانا جعلتني أرتبط بصحيفة رسالة الجامعة في جامعة الملك سعود وبعض الصحف في الرياض و أحظى بلقاء مديري تحريرها و محرريها فعرفت أن الإعلام عالم آخر مختلف جدا لا يظهر منه إلا الناتج الأخير و المعركة الحقيقية تكون قبل ذلك تماما !

و لازلت أذكر كلمات للدكتور ساعد العرابي الحارثي(الذي أصبح الآن مستشار سمو وزير الداخلية) قالها في نهاية أحد الاجتماعات في مقر (رسالة الجامعة) حينها : الكلمة كالرصاصة !

و جربت بعدها أن أكون صحفيا فيها فترددت أجلب الأخبار و أحيانا الإعلانات لصحيفة الجامعة لأجد استقبالا غير عادي ممن أزورهم و عرفت معنى صاحبة الجلالة !

ومن هذه المواقف أني زرت وكيل أحدى الكليات الذي كنت أستحي أن أطالع في وجه عندما يمر في بهو الكلية فإذا به و أنا أعلن نوع المهمة التي جئت من أجلها في مكتبه يستقبلني كأنني مدير الجامعة لا طالبا فيها !

ومرت السنوات لأستمر في انشغالي بالأدب و أترك الصحافة بين مقالات متنوعة و قصص و أشعار بين رديئة و رديئة جدا تنشر هنا و هناك , فقربني هذا من عدد من الإعلاميين و الأدباء وعرفت أسرار الصنعة و شيئا عن المعارك و أشياء عن حسد الأقران و الدعاية و الرماية !

وظننت أني مع كل هذه التجارب التي بدأت بمجلة المدرسة وانتهت بعملي قبل عشر سنوات مشرفا على صحيفة إلكترونية وفي رئاسة اللجان الإعلامية في الإدارة التي أعمل بها سأكون مؤهلا للإبداع والتميز في الإعلام وإدارته!

لكن الذين يرون المنتج النهائي مغلفا لا يعرفون الكثير عن المصنع و الصانع و المواد التي صنع منها !

فأن تكون إعلاميا يعني أن تكون جنديا مجاهداً في معركة حتى لو ربحتها فستخسر ! لذا فانت تربح عندما تنجح مع أقل الخسائر !

و قُدّر لي أن أعمل بالإضافة لإدارة الإعلام في المؤسسة التي أعمل بها متحدثا رسميا عنها فصرت أعرف عن الحطب أكثر مما أعرفه عن الطبخات و أضطر أن اطبخ دون حطب و أحطب من كل وادي و أجاهد النيران التي تشتعل من حيث لا تدري فلا تعرف أتتفرغ للعب دور المطافئ أم تفرق الحطب أم تقتحم النيران لإنقاذ من أشعلها !

و بعيداً عن نار المتحدث الرسمي تجد نفسك معلقاً في الهواء على حبل السيرك اليومي لنشطاء في الإعلام و خبراء و مبتدين كل يحرك الحبل حتى يحصل على الصورة الأجمل لقفزتك السحرية أو سقطتك الجهنمية !

وتبتسم مهما يكن للجميع و تشكرهم لأنك تطعم نهمهم لكل جديد و تتحمل عتب هذا و غضب ذاك و حرص ثالث و برود رابع وكما يقول عادل إمام : ( إللي رايح يضرب و إللي جاي يضرب ) !

أما إذا أردت أن تستنشق شيئا من نسيم الحرية بعيدا عن زخم الإعلام , وجدت عشرةً متعلقين بالانا يريدونك أن تقدسها معهم و تنشر كم كحة كحوا هذا اليوم رغم أن كل من في المخيم يكحون ليلا ونهارا !

و شيئا فشيئا تثقلك القيود و تريد أن تطرح عباءة المشيخة التي ظننت أنك تتوجت بها في الصف الثاني متوسط قبل أربعين عاما !

تتخيل أن تعيش حرّاً لا تحاصرك الشاشات و لا الرسائل ولا الصور و لا المشاركة في مسرحيات لا تعرف بطلها و لا بدايتها و لا نهايتها !

بين من يراك تمسك بدل قلمك أو كي بورد جهازك طبلا , و آخر يظنك تحمل سوطا و ثالث يراك معينا و مبدعا !

تكتب أسطر ورقة خلاصك و تخلع عباءتك التي أثقلت كاهلك منذ أربعين عاماً , و تتمنى أن تولد من جديد دون شعر و لا قصة و لا إعلام تتسلل في أطراف الحياة الجديدة تحضن أطفالك الصغار و تتفرج على أبطال الحطب الجدد الذين يظنون أن النار خلقت أمس و أن القِدر لتوه وضع على الأثافي !

تغلق جوالك دون أن يهمك من سيتصل أو يرسل , و تسند ظهرك لكنب صالة بيتك تحرك المسواك في فمك و تشاهد على شاشة التلفزيون الصور و الأحداث و الأخبار التي أصبحت تعرف أسرارها , و كيف يستطيع الراعي أن يحرك القطيع و كيف يستطيع القطيع أن يقود الراعي !

……………………………………………………..

إبراهيم عواض الشمراني

اظهر المزيد

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى
ksa