المقالات

تجربتي مع ٣٠ يوماً من العزلة

في ثلاثين يوماً.. وجدت نفسي!

حذرني وقال إنها ستكون فترةٌ صعبة! ثلاثون يوماً من الالتزام التام، ثلاثون يوماً بعيداً عن هاتفك..

لا تستطيع الاتصال بأحد ولا حتى بعائلتك! ثلاثون يوماً لن تأكل ما اعتدت أن تتلذذ وتستمتع به، خياراتك الوحيدة لم تكن في قاموسك.

بل ولم تكن قريبة منه.. انسَ قاموسك واجعله ذكرى قديمة.. ما سيتوفر لك وجبات صحية للغاية فقط. شهر كامل من صراع الاستيقاظ المبكر جداً، سيبدأ يومك في الصباح الباكر، قبل طلوع الشمس! يومك يبدأ مع الفجر! ستصبح صديقاً للنوم المبكر رغماً عن أنفك! هل تستطيع الالتزام؟! فلا مجال للانسحاب حينهاـ هذا ما قاله مدير المشروع، قبل قبولهم لي بشكل رسمي.

ما زلت أتذكر حماسي وشغفي بعدما ملئت استمارة المشاركة.. وترقبي لأي رسالة من طرف “الكامب” تفيد بأني قُبِلت.. كنت بانتظار تلك الرسالة كثيراً.. أتابع البريد الإلكتروني وكأني أتابع مسلسلاً فريداً من نوعه.. أحدث الصفحة لعلي أجد جواباً.. ينهي طول انتظاري.
مع كل ذلك.. وبعدما قُبِلت.. وأعطيت مدة قصيرة ومحددة للإجابة في حال أردت المشاركة بشكل نهائي.. ضاعت واختلطت أفكاري ومشاعري.. هل فعلاً أريد الذهاب؟ هل فعلاً أنا قادر؟ هل فعلاً أنا مستعد لترك هاتفي لمدة شهر؟ هل فعلاً أريد التغيير؟! لابد أن تكون رغبتي حقيقية، ودوافعي قوية لأن الموضوع جاد للغاية. هل فعلاً أريد خوض هذه التجربة الشاقة.. بينما أستطيع بتكلفة هذه الرحلة أن أذهب لأي مكان في العالم للاستجمام والراحة، أو التمتع خلال فترة إجازة الصيف!
بعد الاستشارة والاستخارة.. توصلت لقناعة بأن هذه التجربة فعلاً خُلِقت لأمثالي.. لم أقل إنها ستكون سهلة.. بل قلت إنها تحتاجني وأحتاجها.. طموحاتي لطالما كانت كبيرة، لذلك هذا “الكامب” هو أشبه بالتجهيز والتحضير لمختلف صراعات الحياة. لا نستطيع أن نعيد الوقت الضائع.. ولكن بكل تأكيد يمكننا التعويض بإستغلال وقتنا اللاحق. كنت أشعر كذلك بأن لجسدي علي حقاً كبيراً تغافلت عنه طويلاً.. بطريقة أكلي تحديداً أثناء وجودي خارج الوطن للدراسة. لطالما كنت أتساءل أيضاً، لماذا كانت الخلوة في غار حراء من التجهيزات الإلهية لرسولنا محمد عليه الصلاة والسلام قبل البِعثة.. لابد أن للعزلة قيمة عظيمة للإنسان، لذلك كنت مؤمناً جداً بفكرة العزلة في مخيم (إحسان). أحتاج لتلك العزلة.. أحتاج للخروج من العالم الذي أعرفه والدخول في عالم جديد مختلف.. يساعدني للتغيير بشكل أكبر وأسرع.. يساعدني للتوقف للتفكر والتأمل في تفاصيل الحياة.. يساعدني على اكتشاف نفسي أكثر.. يساعدني على إيجاد خارطة الطريق للسلام الداخلي، والنجاح على جميع الأصعدة. عالم لا يحكم عليَّ أثناء المحاولة، ولا يحكم علي بعدم القدرة.. ولا يضعني في قالب معين. وكما قال الشاعر “قالوا لك العزله تقسي ترى يكذبون،، العزله تعلمك وش قيمة الاجتماع”، العزلة أكدت عندي معنى وأهمية العائلة والأصدقاء، لم أعتقد أنني سأتأثر كثيراً بالانعزال عنهم.. لأنني اعتدت على الابتعاد خلال دراستي الجامعية.. ولكن ما حصل عكس ذلك.. عندما أتيحت لي الفرصة مجدداً للتواصل مع من أريد، أمسكت هاتفي بكل حماس وقرأت بعض الرسائل المرسلة لي أثناء وجودي في العزلة سريعاً قبل الاتصال على عائلتي.. كانت رسائل عاطفية مؤثرة غير متوقعة، وجدت عيني دون سابق إنذار تدمع.. رسائلهم وسعادتهم عندما تحدثت معهم حركت مشاعري، بل عصفت بها.. شكراً كامب “إحسان” على هذا الإعصار المفيد. الابتعاد عن وسائل التواصل الاجتماعي جعلني أهتم وأركز على نفسي فقط وأُلاحظها.. وجعلني أستشعر النعم الكثيرة التي تحيطني.. نحتاج إلى ذلك بين حين وآخر. واليوم بعد مرور ستة أشهر على المخيم.. وفرت جُل تفكيري لتنفيذ مشاريعي.
كنت محظوظاً بوجود صحبة صالحة لا تتكرر حولي تدعمني قبل ذهابي، والدي كان متحمساً جداً.. كنت أشعر بأن تكلفة الرحلة كبيرة.. ولكنه كان يرى أنها استثمار مهم جداً في ابنه.. وعند هذه النقطة أقف قليلاً.. وتساؤلي وحيرتي تكمنان بنقطة جوهرية.. هي لماذا نشعر أن مثل هذه التجارب التي تعزز من أنفسنا وقيمنا مكلفة.. بينما نستسهل كثيراً دفع المبالغ الطائلة التي تذهب على سياحتنا، لا أمانع السياحة بالمناسبة، بل أنا من مناصري السياحة والرحلات الاستكشافية، فبها نجدد أنفسنا وخواطرنا.. ونتعلم الكثير أحياناً. ولكن عوداً على بدء.. لماذا نستخسر دفع مبالغ على التجارب الثمينة؟! أنا متأكد أن تجربة (إحسان) سوف يبقى أثرها على نفسي وروحي وجسدي وعقلي طويلاً.. بل للأبد.. وربما إلى ما لانهاية.
ملايين البشر في العالم أجبروا على فعل أشياء كثيرة.. وجدوا أنفسهم في ظروف وأحوال صعبة.. لذلك من الممكن عندما أصف التجربة بأنها صعبة، يرى البعض أنها لا شيء مقارنة بما يواجهه أشخاص كثر في هذا العالم وهذا صحيح.. ولكني أقول إنها كانت تحدياً كبيراً بالنسبة لي، وصعوبتها لا تكمن بالتجربة بحد ذاتها.. بل في الإقدام على خوضها.. بمعنى، أن تختار خوض هذه التجربة.. هنا تكمن الصعوبة وحلاوة الإنجاز، بينما كنت تستطيع اختيار الجلوس في البيت مثلاً، وهذا أكثر راحة بكثير. هناك كذلك من أُجبروا على ترك الوجبات السريعة مثلاً، وهناك من اختار أن (يقلعها قبل أن تقلعه).
عندما تتوفر لك الخيارات، وتكون قوة الاختيار عندك سليمة، وتختار الأفضل والأصح وليس الأسهل، هنا تسير على ممشى الرقي والعلو.. وتبتعد عن كل ما به دنو.
لن أتحدث عن تفاصيل “الكامب”.. حتى يبقى للغموض نصيب. سوف أتحفظ، سأتحفظ لأنني أشبه التجربة بالفيلم الحائز جائزة “الأوسكار”، حيث أنها نتيجة خبرات متراكمة عبر سنوات وسنوات.. وبكل بساطة عندما أشارك بالتفاصيل سوف أحرق نهاية الفيلم.. وليس الفيلم كاملاً. ولكنه كان شهراً بعيداً عن كل ما اعتدت عليه.. وقريباً من أمور أخرى مهمة في الحياة العادية قد لا نتطرق لها، بالتزامنا بروتين متنوع وشامل لكل أساسيات الحياة الخماسية (النفس، الجسد، الناس، المال، والبيئة). عموماً كانت الأيام الأولى بمفاجآتها وتحولاتها سريعة.. ولكن مع الأسبوع الثالث تحديداً بدأ الروتين يصبح مملاً.. لكن هذا الملل مطلوب ويعتبر جزءاً من التحدي.. لأننا في حياتنا دائماً ما نتقبل بداية قراراتنا نحو التغيير للأفضل.. ولكن لاحقاً عندما نمل نتراخى ونضعف.. لذلك معرفة كيفية التغلب على هذا الشعور مهمة. شعاري دائماً هو التوازن، “قليل دائم خير من كثير منقطع” البداية والاستمرار ولو بالقليل.. والزيادة والتطور التدريجي.
قراري خوض هذه التجربة، من أفضل القرارات التي أتخذتها في حياتي.. رحلة ومغامرة اسثنائية.. كل تفاصيلها ملهمة.. وكل تفاصيلها موجودة لهدف، فعلى سبيل المثال في إحدى المنافسات التي خضناها، أُعطينا ثلاث دقائق فقط للتخطيط قبل البدء.. لاحقاً، ضعنا جميعاً ولم ينجح أحد في ذلك التحدي.. كان الدرس هُنا أننا نحتاج ونحتاج ونحتاج إلى التخطيط في حياتنا.

ختاماً، رغم بعض الأيام الصعبة إلا أنني كنت سعيداً ليقيني بالفائدة الكبيرة التي سوف تعود علي بعد “الكامب”. بعد مرور عدة أشهر على التجربة، أشعر بأنها كانت خيال. ولكن للأسف لا دليل على ما يدعيه عقلي حتى أزودكم به، لم يكن معي هاتفي المحمول، أو حتى كاميرا بائسه. كان معي عقلي المجرد، كنت حريصاً على أن أجلبه معي، وأن أجلبه وحيداً دون رفقه، لأنه رأس مالي الحقيقي، وقيمتي وأهم ما أملك، أو أهم ما وهبني إياه الرب. تركت هناك قناعاتي اليائسه، وحملتُ معي قناعات جديدة ناضجة. كان شهراً عن سنة كاملة، فلم يكن هناك وقتاً للوقت الضائع، ولا بوسعي أن أذكر تفاصيل التجربة كما ذكرت سابقاً، بالرغم أنني أعلم بأنها تفاصيل مذهلة، وعندي رغبة شديدة بمشاركتم إياها. ولكن ما أستطيع أن أستنتجه من كل هذا بأني علمت بأن سبب خلافتي في الأرض تختلف عن غيري لذلك لابد أن أواصل البحث عنها. تجربة كهذه تعتبر نقطة تحول في بحثي حول الحياة ودروبها وتقاطعاتها، علمت أيضاً بأنه لابد أن لا أتوقف عن البحث، فأنا باحث ومستكشف.. طالما ما زلت على قيد الحياة. ويوم وفاتي ليست بفراق دقات قلبي، بل بفراق بحثي واستكشافي.. عندما أظن إنني وصلت إلى قمة الهرم، أو قمة الهاوية.

………………………………

عبدالمحسن اللافي
Snapchat: A_Lafi
Instagram: A.Lafi

اظهر المزيد

‫3 تعليقات

  1. ماشااءالله تبارك الرحمن دايماً كل ماقريت لك مقال انبهر وتعجبني جداً طريقة انتقائك للكلمات وشلون التتابع بالجمل
    مقال جداً رائع وهذا رأيي بكل صراحه وصدق
    يعني ماشاءالله يعجز لساني عن وصف فكرك وعقليتك يا عبدالمحسن تحب تثبت نفسك انك افضل وافضل وانت قدها وربي يكتبلك الخير والتوفيق وين مارحت..

  2.  قال صلى الله عليه وسلم: نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة، والفراغ.” رواه البخاري، وقال صلى الله عليه وسلم: “لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع، وذكر منها: عن عمره فيم أفناه” رواه الترمذي، وفي رواية: “وعن شبابه فيم أبلاه” وقال صلى الله عليه وسلم: “اغتنم خمساً قبل خمس، وذكر منها: فراغك قبل شغلك، وشبابك قبل هرمك” رواه الحاكم، وقال صلى الله عليه وسلم: سبعة يظلهم الله في ظله يوم القيامة، وذكر منهم: شاب نشأَ في عبادة الله ” رواه البخاري ومسلم.
    الأبن الحبيب عبدالمحسن بإختصار أنت طبقت الأحاديث الواردة في شأن تنظيم الوقت و ترتيب الأولويات و الإستفادة من قدراتك التي وهبها الله لك  ..
    أسأل الله العظيم رب العرش العظيم باسمائه الحسنى و صفاته العلى أن يحفظك بحفظه و يسخر لك الرفقة الصالحة إنه ولى ذلك و القادر عليه و صل الله على نبينا محمد و على آله و صحبه و سلم  ..

  3. كالعاده تبهرني مقالاتك شفت اعلانك عن نزول المقال لمن كنت ادرس البارح بس اخترت اكافئ نفسي فيه بعد ما اخلص الاختبار وفعلاً مكافئه وافيه وجميله اتمنى ماتقطع مقالاتك الملهمه وماتحرمنا لذه قرأتها ابداً ، واتمنى ايضاً يستمر عقلك بالنضوج بهذا الشكل ، بالتوفيق
    بالمناسبه : كلي ثقه بان والديك شخصين رائعين ❤️

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى